إن روح السماحة التي تبدو في حُسن المعاشرة، ولطف المعاملة،
ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان
- من الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء,
وهذه الروح تكاد لا توجد في غير المجتمع الإسلامي.
تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدَيْن المشركَيْن
اللذيْن يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين
في الدين:
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
[الممتحنة: 8].
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8],
ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.
وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم
وجيرانهم من المشركين المُصِرِّين:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأِ َنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}
[البقرة: 272].
وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدوِّن مذهبه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا؛ ليوزَّع على فقرائهم[1].
هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت:
قدمت أمي وهي مشركة, في عهد قريش إذ عاهدوا،
فأتيت النبي فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفـأصِلُها؟ قال: "نعم، صِلي أمك"[2].
وفي قول القرآن يبين أدب المجادلة مع المخالفين:
{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ}
[العنكبوت: 46].
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول لأهل الكتاب يهودًا كانوا
أو نصارى،
فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
ذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران -وهم من النصارى- لما قدموا على الرسول بالمدينة،
دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده،
فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله : "دعوهم", فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في (الهدي النبوي) فذكر ما فيها من الفقه:
"جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين،
وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين،
وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك"[3].
وروى أبو عبيد في (الأموال) عن سعيد بن المسيب
: أن رسول الله تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تُجْرَى عليهم[4].
وروى البخاري عن أنس: أن النبي عاد يهوديًّا،
وعرض عليه الإسلام فأسلم، فخرج وهو يقول:
"الحمد لله الذي أنقذه بي من النار".
وروى البخاري أيضًا: "أن النبي مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله".
وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه،
وما كانوا لِيَضِنُّوا عليه بشيء, ولكنه أراد أن يُعَلِّم أمته.
وقَبِل النبي الهدايا من غير المسلمين، واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين،
حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرًّا ولا كيدًا.
ومرت عليه جنازة فقام لها واقفًا، فقيل له: إنها جنازة يهودي!
فقال عليه الصلاة والسلام: "أليست نفسًا؟".
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين,
فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين،
ثم يقول: قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60],
وهذا من مساكين أهل الكتاب[5].
ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجزومين من النصارى,
فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين.
وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة -أبي لؤلؤة المجوسي-
فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده, وهو على فراش الموت فيقول:
"أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم،
وأن يقاتل من ورائهم، وألاَّ يكلفهم فوق طاقتهم"[6].
وعبد الله بن عمرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية،
ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام، وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟
قال ابن عمرو: إن النبي قال:
"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"[7].
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشيَّعها أصحاب رسول الله [8].
وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى,
ولا يرون في ذلك حرجًا, بل ذهب بعضهم -كعكرمة وابن سيرين والزهري-
إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.
وروى ابن أبي شيبة عم جابر بن زيد:
"أنه سُئل عن الصدقة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين،
وأهل ذمتهم"[9].
وذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك" قال:
"حدَّث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق[10]
دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي،
فقام له القاضي ورحب به, فرأى إنكار الشهود لذلك،
فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}
[الممتحنة: 8]،
وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين،
وهو سفير بيننا وبين المعتضد, وهذا من البر"[11].
وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك في مواقف كثير من الأئمة والفقهاء،
في الدفاع عن أهل الذمة، واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين،
وقد ذكرنا مثلاً لذلك: موقف الإمام الأوزاعي، والإمام ابن تيمية.
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر الله به المسلمين في شأنهم,
فذكر من ذلك: الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم،
وكساء عاريهم،
ولين القول لهم -على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة,
واحتمال إذايتهم في الجوار -مع القدرة على إزالته- لطفًا منا بهم،
لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة،
ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم،
إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم،
وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم..